أثر التعددية التراثية فى فن التصوير المصرى المعاصر

لأکثر من قرنين من الزمان کانت مصر تعانى وطأة الاحتلال البريطانى ، السيطرة الغربية الأوروبية ، تأثير التدخل الأجنبى فى الشؤون الثقافية على نحو لا يمکن إغفاله ، ودعاوى التغريب والتمايز بين المجتمعات المختلفة داخل مصر من وجهة النظر الاستشراقية الاستعمارية ، کانت کلها مظاهر من شأنها أن تقود الحرکة الفنية فى مصر بأکملها نحو نفق طويل من الشتات وفقدان الهوية وتفتيت المکونات الثقافية التى نشأت مع الحضارات المتعاقبة. إلا أن النقيض هو ما حدث ، فانتماء مصر لسمات الثقافات المصرية القديمة والمسيحية القبطية والإسلامية العربية لم يفقد تأثيره ، بل يمکن القول أن موقف الدين إزاء فن التصوير لم يحُل دون ازدهاره وتطوره داخل محيط الوطن ، على عکس ما حدث فى أوروبا خلال القرون الوسطى ، أو ما شهدته بريطانيا البروتستانتية خلال القرن التاسع عشر ، و ما استتبع حظر الدين لفنون التصوير من هجرة الفنانين ، أو بحثهم عن مصادرإلهام بعيدة عن أوطانهم ، و بينما کان هذا هو الحال فى أوروبا فى الماضى القريب استطاع عدد کبير من الفنانين فى مصر توظيف المکون العربى الإسلامى و الخطوط العربية بتشکيلاتها المتنوعة لإنتاج لوحة تعکس الشخصية المصرية بروح إسلامية متفردة ، دون أن يقف الدين موقف الحائل المانع دون استمرار الإبداع و تدفق التيارات الفنية. لطالما کان الانقسام بين الحداثة و القيم التقليدية حاضرا فى المشهد الثقافى و الفنى داخل مصر ، لکنه کان العامل الأقوى فى دفع الحرکة الفنية ، و تغذية روح البحث والتطور وتنامى الوعى ، وکثيرا ما وجد الفنانون المصريون أنفسهم بين عدد من التيارات المختلفة ، و المتعارضة جزئيا ، فراح يشارک کل منهم من منطلق توجه و قناعة لبناء الکيان القومى و الثقافى داخل الأمة المصرية الحديثة. لم تکن هذه الحالة من الانقسام وليدة اللحظة ، إلا أن لها جذورا عميقة بدأت منذ اللحظة التى تفتحت فيها أعين المصريين على سمات النهضة الحديثة خلال عهد "محمد على" و خلفائه من بعده ، متمثلة فى الحرکة الموسعة للترجمة ، إنشاء المطابع ، تزايد البعثات العلمية ، ظهور المؤلفات الفکرية لـ"قاسم أمين" و"الطهطاوى" و"لطفى السيد" و"العقاد" و غيرهم ، ونبرة إحياء الهوية المصرية القديمة باعتبارها المکون الأساسى للشخصية المصرية ، بينما على الجانب الآخر کانت التيارات الدينية والمحافظة تشهد صعودا فى تشکيل الجمعيات الأهلية ، و المؤلفات الفقهية و التشريعية و-حتى- الأدبية ، ترى- من منطلق عقائدى- أن القيمة الحقيقية لمصر فى کونها جزءا من العالم الإسلامى ، مغلبة فکرة الهوية العربية على ما دونها. کان لهذا الزخم المتواتر من الأحداث و الصراعات الفکرية و السياسية داخل مصر فى العصر الحديث ، علاوة على تأثرها بقضايا المنطقة العربية و القارة الأفريقية ، و ما ترتب على خوضها عدد من الحروب فى سبيل استقلال الشعوب العربية ، واستعادة الأراضى المسلوبة منذ حربى 1948م و 1967م ، کان لکل هذا دوره فى تشکيل الحرکة الفنية على نحو يتسم بالثراء و التعددية ، فمن تجسيد المشاعر الوطنية تجاه التراث القديم ، مرورا بالحرکات الفنية المعبرة عن متغيرات العصر خلال الحربين العالميتين و الحراک السياسى الداخلى ، وصولا إلى الاتجاهات التعبيرية والتجريدية المعاصرة مشکلة البحث : إبراز التنوع الفکرى والثقافى الذى أدى إلى إثراء الحرکة الفنية فى مصر ، بحيث يمکن الإجابة عن تساؤل حول مدى نجاح الفنان المصرى فى استيعاب کل أشکال التراث المصرى ، والتعبير عنها برؤية خاصة تتناسب مع المکون الثقافى من ناحية ، وقضايا العصر من ناحية أخرى.  هدف البحث: إبراز الدور الذى لعبته التعددية الفکرية والتراثية فى فن التصوير المصرى المعاصر ، من خلال استعراض تاريخى لمسيرة الحرکة الفنية الحديثة فى مصر ، وتسليط الضوء على نماذج من أهم الأعمال الفنية التى ظهرت خلال القرن العشرين ومستهل القرن الحادى والعشرين ، و تحليلها تشکيليا فى إطار تجسيد الثقافات و الإنتاج التراثى الحضارى الذى نما وازدهر عبر العصور المتعاقبة مشکلا المناخ الثقافى و الفنى فى مصر. أهمية البحث : تترکز أهمية البحث فى تأريخ فن التصوير المصرى المعاصر من خلال تحليل المرجعيات التراثية المختلفة التى استلهم منها الفنان موضوعاته و أفکاره وقيمه التشکيلية ، على نحو يجسد ثراء التجربة المصرية فى فن التصوير الحديث رغم تأخره زمنيا، و ذلک مقارنة بالتصوير الغربى الحديث الذى استغرقته الأساليب  والمذاهب أکثر من الحرکات الفکرية و الجذور الثقافية والأيديولوجيات. منهج البحث :  يتبع الباحث المنهج التاريخى التحليلى